تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سعة الآفق


سر العطاء
03-30-2014, 01:50 PM
*سعة اﻷ‌فق*



من نعمة الله – تعالى – على العبد أن يرزقه سعة في اﻷ‌فق، وعمقاً في النظر، فيتسع فكره، وينطلق في آفاق رحبة واسعة، ويؤتيه الله بصيرة نافذة تجعله ينفذ إلى أعماق الحقائق وأبعادها، فيقدرها بقدرها، ويضعها في مواضعها.*

ومما يعين اﻹ‌نسان على سعة اﻷ‌فق:*

1 – حرصه على طلب العلم والجدّ فيه، وأخذه من أهله اﻷ‌ثبات الراسخين، والصبر على تتبع مسائله في مظانها المختلفة، وحرصه في بدء الطلب على أن يأخذ من كل فن أصوله وقواعده لكي تتكامل معارفه وتألف علومه، والعلم هو الركيزة اﻷ‌ساس التي تبني عقل اﻹ‌نسان وتجعله يستقيم على الجادة؛ ألم ترَ أن الجاهل يعيش في ظلمة فﻼ‌ يبصر طريقه، فإذا عرض له عارض صار يتخبط ويضطرب؟ بينما ترى صاحب العلم والفهم حاذقاً فطناً يفتح الله عليه من أبواب العلوم ما يجعله قادراً على رؤية أبعاد واسعة ﻻ‌ يراها من هو دونه.*

2 – تنوع ثقافاته، وتعدد قراءاته في مختلف أنواع المعرفة العلمية، فالمتخصص في الدراسات الشرعية – مثﻼ‌ً – ﻻ‌ ينحصر في هذا التخصص؛ بل تمتد عنايته واطﻼ‌عه إلى الدراسات اﻷ‌دبية والفكرية واﻹ‌نسانية اﻷ‌خرى؛ فهو يتنقل في حقول العلم والفكر، ويمتص رحيق اﻷ‌زهار بألوانها وأشكالها المتنوعة، وهكذا بقية المتخصصين في فروع أخرى من العلم.*

3 – كثرة محاورته ومجالسته ﻷ‌هل العلم والرأي؛ فبالحوار العلمي الجاد تتسع مدارك اﻹ‌نسان، ويقف على أشياء قد ﻻ‌ تخطر باله على اﻹ‌طﻼ‌ق، وقديماً قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله-: "إني وجدتُ لقاء الرجال تلقيحاً ﻷ‌لبابهم"(1). وقال الزهري: "العلم خزائن ومفاتيحها السؤال"(2). وقال أيوب السختياني: "إنّك ﻻ‌ تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره"(3).*

ولهذا كان السلف يحثّون طالب العلم على الرحلة والسفر لمﻼ‌قاة العلماء واكتساب مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفي هذا يقول ابن خلدون: "على كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها"(4).*

4 – حرصه على التأمل والنظر والتفكر، وشحذ الذهن وتنشيطه في دراسة المباحث والمسائل، والفكر الحي المعطاء هو الفكر المتّقد الذي ينبض بحيوية ونشاط، فﻼ‌ يكسل وﻻ‌ يعجز وﻻ‌ تصيبه السآمة والملل، وكثرة التفكر تنمي المَلَكة، ف(كثرة المزاوﻻ‌ت تعطي الملكات، فتبقى للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة)(5)، كما أنّ الفكر المنظم المدروس هو الذي يبني العقل ويجعله يستقيم على الطريق، وأما العشوائية واﻻ‌رتجالية في التفكير فإنها تشت الذهن وتفرّق الهم.*

أما اﻹ‌نسان الذي ﻻ‌ يفكر، أو يفكر بطريقة راتبة أو عشوائية، فإنه بالضرورة إنسان عاجز ﻻ‌ يقوى على إعطاء التصور الصحيح للمسائل، بل قد يقوده تفكيره أحياناً إلى التخبط واﻻ‌ضطراب.*

5 – اطّﻼ‌عه على التجارب والخبرات البشرية في القديم والحديث محاوﻻ‌ً قدر الطاقة اختزانها في عقله لكي يستطيع توظيفها التوظيف اﻷ‌مثل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.*

6 – تحرره من التقليد اﻷ‌عمى بكل صوره وأشكاله؛ فهو يستفيد من أشياخه وأقرانه وأصحابه وغيرهم، ثم ينطلق بفكره الحرّ يتلمّس مختلف السبل بعقلية ناضجة مستقلة؛ وليس كل الناس يقوى على ذلك؛ فأصحاب الفكر هم المعادن الكريمة النادرة، وهم القادرون على توجيه اﻷ‌مة، وأما عامة الناس فهم همج رعاع أتباع كل ناعق، وبين هؤﻻ‌ء وأولئك فئام من الناس أخذوا من كل فريق بطرف.*


* ضيق اﻷ‌فق:*

من اﻷ‌دواء الفكرية المنتشرة عند كثير من الناس: ضيق اﻷ‌فق، والنظر إلى المسائل المختلفة بسطحية مفرطة؛ فكم ينقبض صدر المرء حينما يرى من بعض الناس أن القضايا المصيرية العظيمة في مسيرة اﻷ‌مة تؤخذ بعين الغفلة والسذاجة وقلة الفهم والبصيرة!*

ومن أبرز أسباب ضيق اﻷ‌فق:*

1 – الجهل وقلَّة البضاعة؛ فكم جرَّ الجهل على أصحابه من المهالك والمفاسد! والجهل دركات بعضها أسوأ من بعض، وكلما ازداد المرء جهﻼ‌ً ازداد تهالكاً وانحرافاً، وهل رأيت جاهﻼ‌ً يقوى على إدراك حقائق اﻷ‌شياء ومقاصدها، أو يقدر على قراءة الواقع واستشراف المستقبل؟!*

2 – قلة الفهم والوعي؛ وهما أمران زائدان على مجرَّد الجهل، فرُبَّ صاحب علْم ﻻ‌ يفيده علمه كبيرَ فائدةٍ بسبب ضعف فهمه وعسر إدراكه؛ ﻷ‌نّه وقف عند حروف اﻷ‌لفاظ، ولم ينفذ إلى معانيها ومراميها، والفهم بضاعة نادرة ﻻ‌ يؤتاها إﻻ‌ أصحاب العقل الراسخ والبصر النافذ، وصاحب الفهم يفتح الله عليه من إدراك النصوص والوقائع ما ﻻ‌ يخطر على بال غيره، قال ابن القيم – رحمه الله-: "ربّ شخص يفهم من النص حكماً أو حكمَيْن، ويفهم منه اﻵ‌خر مائة أو مائتين"(6).*

3 – الرتابة في التفكير ورؤية المسائل، واﻻ‌عتماد على المألوف المعتاد فقط، وهذا بالتأكيد يجعل اﻹ‌نسان أسيراً في بيت مغلق، كما يجعله في عزلة فكرية يحبس فيها عقله، فﻼ‌ يقوى على النظر واﻹ‌بداع والتجديد.*

4 – التربية التقليدية الهزيلة التي تنتشر في كثير من المحاضن التربوية، وتشكل عقول الناس تشكيﻼ‌ً يقتل معظم ملكات اﻹ‌بداع والتفكير.*

5 – التقليد اﻷ‌عمى الذي يسد منافذ التفكير، ويجعل المرء مجرد تابع لغيره، فﻼ‌ يستطيع أن يبني رأيه وفكره بناءً صحياً متجرداً؛ ولهذا تجد أنّ المقلد لشيخ أو لمذهب أو لطائفة من أكثر الناس ضيقاً في اﻷ‌فق؛ وذلك ﻷ‌نه لم ينظر إﻻ‌ من نافذة واحدة، ولم يفكر إﻻ‌ من زاوية محدودة، وتراه يتنقل بين سراديب ضيقة تنتهي به أخيراً إلى بﻼ‌دة ذهنية تعصف بتفكيره وتجعله أحياناً يقتنع بالشيء ونقيضه في آن واحد..!*

6 – اﻻ‌كتفاء بالنظر إلى ظواهر اﻷ‌مور المجردة، والتعلق بقشورها القريبة، دون النفاذ إلى أعماقها، أو النظر إلى أبعادها ومقاصدها، ويؤدي ذلك إلى اﻻ‌غترار بالشكل والبهرج على حساب الحقائق والمضامين؛ مما يحجب الرؤية بغمامة معتمة تطغى على البصيرة، وكم من اﻷ‌شياء من حولنا نراها في مظهرها الخارجي رؤية معينة؛ ولكننا إذا تجاوزنا ذلك إلى دواخلها، وأزلنا القشرة الرقيقة التي تحيط بها تبينت لنا صورة أخرى مختلفة وبعيدة كل البعد عن الصورة اﻷ‌ولى.*

وانظر إلى صفة المنافقين في القرآن: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" (المنافقون: من اﻵ‌ية4)؛ فهل تكفي هذه الصفة الظاهرية ﻷ‌جسامهم وأقوالهم في إعطاء تصور صحيح متكامل عن هؤﻻ‌ء القوم؟! بالتأكيد ﻻ‌ تكفي؛ فالقرآن يوضح حقيقة هذا المظهر: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (المنافقون: من اﻵ‌ية4).*

ونظير ذلك أيضاً: اﻻ‌غترار بالكم على حساب الكيف، وانظر مثﻼ‌ً إلى قول الله – تعالى-: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً" (التوبة: من اﻵ‌ية25)، ثم قارن ذلك بقوله – تعالى-: "إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ" (اﻷ‌نفال: من اﻵ‌ية65)، ويتضح من ذلك أن معاني اﻷ‌مور ومقاصدها الصحيحة تتجلى في حقائقها ومعادنها اﻷ‌صيلة.*

وليس المقصود هنا أن الشكل الظاهري أو الكم مرفوضان كلية؛ ولكن المقصود التحذير من اﻻ‌كتفاء بهما، أو الوقوف عند حدودهما فحسب.*

7 – النظرة الجزئية الضيقة التي تختزل المسائل الكبيرة إلى إطار محدود صغير؛ مما يؤدي – بالتأكيد – إلى تكوُّن تصور هزيل مبتور ﻻ‌ يمثل إﻻ‌ جزءاً يسيراً من الحقيقة؛ بل قد يؤدي هذا التصور إلى تشويه الحقيقة بسبب نقصها وافتقارها للنظرة الشمولية المتكاملة.*

8 – الخلط في تقدير المصالح والمفاسد، والجهل في ترتيب اﻷ‌ولويات؛ مما قد يؤدي إلى التعلق بالمصلحة القريبة العاجلة، وإن ترتب عليها مفاسد كبيرة في العاجل واﻵ‌جل، أو يؤدي إلى تقديم المصالح المفضولة على حساب المصالح الفاضلة.*
*